ما هي أهمية التقرير و ما يعني لامريكا كدولة تتدعي انها دولة قانون تقدس حقوق الانسان و تعطي لنفسها حق تقديم النصح لدول العالم؟ قرأت عدة مقالات و تعليقات في الصحف المصرية تدور حول النقاط التالية:
- امريكا تتدعي كذبا احترام حقوق الانسان و تتدخل في شؤون الدول المختلفة بحجة حقوق الانسان و مشاكلها من التعذيب الي تعدي الشرطة على السود تفقدها الحق في توجيه النقد للغير.
- امريكا اثبتت لنا ان استعمال التعذيب و العنف المفرط و عدم اتباع القانون في فترات الأزمات و مكافحة الاٍرهاب أمر طبيعي و مقبول.
و لكن قرأتي و انطباعي كمصري أمريكي بعد قراءة التقرير كانت مختلفة عن رد الفعل أعلاه ، طبعا كان لدي شعور بالغضب و التقزز من الاستعمال الموسع و المنهجي للتعذيب و انتهاكات حقوق الانسان و لكن هذا الجزء لم يحتوي علي جديد، فضائح التعذيب و تسريبات أبو غريب و قصص جوانتنامو كانت جزء أساسي من إنهيار منهج المحافظين الجدد و إدارة الرئيس بوش. أتذكر ايضا قرأتي لكتاب عن الامريكي السوري الذي اعتقل بعد إعصار كاترينا في مدينة نيو أورليانز و كيف تحول هذا الامريكي المسلم الشجاع الذي ظل في مدينته للحفاظ على بيته و عمله. عبد الرحمن زيتون كان يقدم المساعدة لكل من قابل بعد الإعصار حتى الكلاب التي هرب أصحابها و تركوهم كان يحضر لهم الطعام يوميا، تحول ذلك الانسان النبيل الي ارهابي مشتبه فيه، قرات عن معاناته في سجن أشبه بجوانتنامو داخل الاراضي الامريكية نفسها. التقرير لم يحتوي علي الجديد ليصدمني، و لكن نشر التقرير زاد من تقديري لامريكا كنظام و دولة قادرة علي مواجهة مشاكلها بشفافية، قادرة علي فتح جروح عميقة و تطهيرها، سأتحدث عن موضوع العقاب لاحقا و ايضا عن مازال يقلقني و كيفية ضمان عدم تكرار ما حدث مرة اخرى في المستقبل.
نعود بالذاكرة الي فترة ما بعد كارثة ١١ سبتمبر ٢٠٠١، جريمة ارهابية قاسية، اعتداء غاشم علي ابرياء مدنيين لا ذنب و لا حيلة لهم. ذلك الحدث المأسوي أوقع إدارة بوش تحت قبضة ما يسمى باليمين المتشدد او المحافظين الجدد تحت قيادة نائب الرئيس الامريكي ريتشارد تشيني. الأحداث تعاقبت لعلاج مشاكل الاٍرهاب طبقا لعقيدة المحافظين الجدد: الاٍرهاب النابع من التيار الاسلامي المتشدد، في نظرهم، هو نتيجة عدم وجود مجتمع استهلاكي ديمقراطي فبدلا من تركيز كل إنسان في نفسه و طموحاته كما يحدث في امريكا يقوم أهل الشرق الأوسط او العالم الاسلامي بتفريغ طاقتهم السلبية و فشلهم في تحسين ظروفهم في التحول الي التطرّف الديني و كراهية الغير بدا باليهود و اسرائيل الى القيام بعملية ١١ سبتمبر ٢٠٠١. الغاية بررت الوسيلة لتشيني و اتباعه، غزو العراق لبناء ديمقراطية حقيقية قادرة علي تقديم مثال للشرق الأوسط الجديد، تحالف أعمق مع اسرائيل كخط دفاع اول في المواجهة مع التطرّف الاسلامي، الي اخره كما شاهدنا في فترتي رئاسة بوش. الغاية تبرر الوسيلة كانت شعار المرحلة حتي في تطبيق القانون و هنا كان دور هام لمحامي البيت الأبيض و رجال القانون من المحافظين الجدد.
بوش، تشيني و رامسفلد و وولفويتز هي الأسماء التي سمعنا عنها مرارا عن تلك الفترة و لكن المسؤلية الكبري عن التعذيب تقع في الحقيقة مع أشخاص اقل شهرة و أهمهم چون يوو، رجل قانون غاية في الذكاء، أمريكي من أصل كوري، تلقى تعليمه في اعظم جامعات الولايات المتحدة و تعلم القانون تحت إشراف مشاهير القضاة و لكن جون يوو كان يميني متشدد، استغل عبقريته القانونية في تفسير القانون الدولي و الامريكي بطريقة سمحت لامريكا بتجاهل معاهدات چينيڤ الدولية لمعاملات اسرى الحرب. روؤية چون يوو للقانون الامريكي في فترة رئاسة كلينتون ان سلطات الرئيس محدودة للغاية فيما يتعلق بقدرته على الحفاظ على سرية منصبه في الامور الداخلية و لكنه كتب مقالات مؤيدا لكلينتون في التدخل الامريكي في سرابيا بدون طلب الموافقة من الكونجرس، يؤمن يوو بان القانون و الدستور الامريكي يعطي الرئيس سلطات واسعة للغاية في شؤون الأمن القومي. آراء چون يوو كانت السبب الأساسي في تعيينه في إدارة بوش في ما يقابل وزارة العدل و هنا قام يوو بإصدار تفسيرات قانونية سمحت بممارسات التعذيب لحماية الأمن القومي الامريكي. واجهت تفسيرات يوو القانونية المعارضة من بعض رجال القانون في الجيش الامريكي و في وزارة العدل نفسها كما عارضها ايضا كولين باول وزير الخارجية عندئذ، و لكن تم اعتماد تفسيرات يوو من محامي البيت الأبيض و من وزير العدل وعُرفت تقارير بعد التسريبات التي فضحتها برسائل التعذيب او Torture Memos. چون يوو لم يكن محامي صغير او موظف بسيط يريد فقط رضاء كبار المسؤلين بل بالعكس، فلقد كان أستاذ للقانون في جامعة من اهم جامعات امريكا و أشهرها و عند تعينه مساعد لوزير العدل كان رجل قانون ذو سمعة و صيت و نشر له العديد من الأبحاث القانونية و المقالات في اشهر صحف امريكا.
تاريخ الشعوب كلها مليئ بالاخطاء، بعضها تواجه اخطائها بصراحة و تتعلم منها كشعوب و دول و مؤسسات، للولايات المتحدة العديد من الأخطاء من التفرقة العنصرية ضد كل من هو ليس أوروبي بروتستانتي ابيض الي اعتقال أبناء امريكا من أصول يابانية اثناء الحرب العالمية الثانية الي فضائح المخابرات الامريكية في الخمسينات و الستينات و فضائح التجسس و التعذيب التي حدثت بعد ١١ سبتمبر ٢٠٠١. نجحت الولايات المتحدة في مواجهة تاريخها العنصري نجاح لا مثيل له في تاريخ الشعوب، قوانين حازمة لمكافحة التمييز و العنصرية، قوانين تعطي الافضلية لشركات مملوكة للاقليات، منظومة التعليم و الاعلام كلها تعمل بجدية للقضاء علي التمييز، هل هذا النجاح كامل ؟ طبعا لا و نسمع عن مشاكل و احداث و موت ابرياء و لكن هذا الفشل لا يقلل من الجهد الغير مسبوق تاريخيا في مكافحة التمييز شعبيا، قانونيا، اقتصاديا و حتى لغويا. و كذلك نري ماساة اعتقال اليابانيين الامريكين بناء علي قرار الرئيس روزفلت، تقدم الرئيس رونالد ريجان باعتذار مفصل و كامل للمعتقلين و ابنائهم و احفادهم. اتذكر انني، في أعقاب سبتمبر ٢٠٠١، كنت ألقي مجموعة من الخطب عن الاسلام و طبيعة حياة المسلمين في عدة مدارس في مدينة بوسطن مع أمريكي ياباني قضي طفولته في معتقل مانذنار في ولاية كاليفورنيا، كنت اتحدث انا عن الاسلام كدين و هوية لمئات الملايين من البشر باختلافاتهم و وجود تسامح و تطرف، روحانية جميلة و عنف بغيض، و كانت رسالتي الاساسية ان وجود إرهابيون مسلمين لا يعني ان كل المسلمون إرهابيون. و كان رفيقي الياباني الامريكي يتحدث عن حياته و اسرته في المعتقل لمدة تقارب الثلاث سنوات و نشاطه مع اخرين للحصول علي اعتذار رسمي من الادارة الامريكية. إعتراف أمريكا بالأخطاء في حق اليابانيين و مواجهة تلك الأخطاء كان سبب أساسي في كسر شوكة ردود الفعل ضد العرب و المسلميين. هل كانت ردود الفعل مقبولة؟ بالطبع لا و لكن مقارنة سريعة بأحداث مماثلة في العالم ترينا نجاح أمريكا تخطي أخطائها و النضج كحضارة و دولة، و كيف تتعلم الشعوب من اخطائها.
و الان ماذا عن تقرير مجلس الشيوخ الامريكي و التعذيب، دعنا نتذكر أن الرئيس اوباما بعد توليه منصبه بيومين قام بإلغاء التفسيرات القانونية التي وضعها چون يوو و استعملتها إدارة بوش، دعنا ايضا نتذكر ان محامي البيت الأبيض في فترة بوش الأولي ألبرتو جونزالس الذي تولي منصب المدعي العام او وزير العدل عام ٢٠٠٥ أرغم علي الاستقالة من منصبه في ٢٠٠٧ بعد تسريبات عن التعذيب و دوره في الموافقة على آراء يوو. كلا من جونزالس و يوو واجها تحديات قضائية من بعض ضحايا التعذيب و جهات حكومية و ادارية مختلفة. في الأيام القادمة و بعد نشر تقرير مجلس الشيوخ أتوقع ان تتزايد الضغوط علي الادارة الامريكية لمعاقبة يوو و اخرين. لقد قامت امريكا بمواجهة نفسها بالتفاصيل عن ما حدث بعد احداث سبتمبر و كيف سمحت الدولة لنفسها باسم الحماية من الاٍرهاب بالانهيار القانوني و الاخلاقي الذي أدي الي السماح بالتعذيب و التجسس. كشفت امريكا الفضيحة الحقيقية و هي التلاعب بالتفسيرات القانونية لتبرير وسائل غير قانونية. تقرير مجلس الشيوخ يساعدنا في الوصول الي حقيقة هامة وهي ان الأمن القومي يعزز بإحترام القانون و ليس بالتلاعب عليه و ان دور الرئيس و الادارة هو الحفاظ على الدستور أولا و قبل كل شي، الدستور، نعم الدستور و الحفاظ عليه اهم من الأمن القومي! و لكن بدون عقاب صارم هل يقدم تقرير مجلس الشيوخ الردع الكافي؟
من قاموا بالتعذيب قاموا به تحت ستار قانوني كامل و لا يمكن مسألتهم قانونيا كما حدث بعد فضيحة التعذيب في سجن ابو غريب فالعراق و التي حوكم فيها كل من كان له دور في التعذيب من أفراد الجيش الامريكي . الجريمة الحقيقية في فضيحة التعذيب لل سي اي ايه او وكالة الاستخبارات المركزية كانت في ما فعل يوو من إصدار التبريرات القانونية و من المسؤلين السياسيين في إدارة بوش الذين طلبوا التبريرات و اعتمدوها رسميا. ولذا اجد نفسيي كمواطن أمريكي غير مكتفي بتقرير مجلس الشيوخ و اشعر بالقلق ان يوما ما يعود المحافظون الجدد الى الادارة الامريكية و يقوم چون يوو جديد بإصدار تبريرات مماثلة. أريد ان أري ضمان للشفافية في المستقبل ، اريد ان ارى قوانين صارمة تعتبر إصدار تفسيرات قانونية من هذا النوع بدون نشر واسع او مراقبة برلمانية جريمة، اريد ان ارى ضمانات قانونية تحمي من يعترض على العمل بمثل تلك التفسيرات اذا كانت ضد روح القانون و قيم حقوق الانسان. اعلم تماما ان الولايات المتحدة كدولة عظمي تتحمل مسؤلية ضخمة، و لذا يتحتم على إدارة اوباما ان لا تتقاعس عن العمل مع الكونجرس في الوصول الى حل يضمن احترام إنسانية المعتقل او المسجون سواء كان داخل أراضي الولايات المتحدة او خارجها، أمريكي الجنسية او اجنبي، يتبع جيش نظامي او عضو في جماعة ارهابية او حتي سفاح فرديي. قيم امريكا و ما تتدعي انها تمثله لن تنتصر بممارسة أساليب چوزيف ستالين او أساليب داعش. خطورة ما حدث تكمن في صعوبة المسائلة القانونية لاي من الاطراف و لا يزال يوو يجادل في صواب ارائه البشعة و هنا جوهر ما يقلقني.
نعود الان و ننظر الي القراءة المصرية لتقرير مجلس الشيوخ، هل فعلا فقدت الولايات المتحدة الحق في انتقاد الغير؟ بالطبع لا، فها هي تبحث في فضائحها و تنشرها، ها هي لجنة تقصي الحقائق في مجلس الشيوخ تبحث و ستقصي و تعلن للعالم كله الفضيحة بتفاصيلها و تتناول طرق التعذيب المختلفة و حتى عدد المرات التي استخدمت فيها. هل اثبتت امريكا ان العنف المفرط و التحايل علي القانون امر مقبول لحماية المواطنين؟ بالعكس تماما، تقرير مجلس الشيوخ تطرق الي عدم جدوى التعذيب كوسيلة استخبارية و لكن الأهم من هذا هو ما أثبتته إدارة اوباما في قدرتها علي ملاحقة و قتل اسامة بن لأدن وحماية شعبها بدون استخدام تلك الوسائل الحقيرة. و كذلك نقراء الان عن كيف ساهم تعذيب ابو غريب في خلق ارهاب داعش الفظيع.
الشفافية و العلانية في امريكا تعطي الفرصة لمن يريد ان يبرر اي جريمة بقول ان ذلك يحدث في امريكا و لكني اختلف بشدة مع هذا الرأي، اوافق تماما ان المجتمع الامريكي يعاني من العنصرية و التمييز، و لكن دعنا نتذكر ان الولايات المتحدة مرت بحرب أهلية مريرة قبل ان تتمكن من تحرير العبيد و دعنا ايضا نتذكر ان القانون في كاليفورنيا مثال الحرية و التقدم في امريكا لم يسمح بزواج ياباني من ابيض في أوائل القرن الماضي، العنصرية الممنهجة لازالت تعني ان الأطفال السود في اغلب الأحوال يحصلون علي قدر اقل من الرعاية الصحية و التعليم من المجتمع ككل، المشاكل موجودة و لكن هنالك باستمرار سعي دائم لاقرار قوانين تحارب العنصرية و التمييز و لكن المجتمع لازال يعاني من العنصرية، نجد ان في بعض الأحوال تطبيق القانون بحذافيره لا يصل بنا لإنهاء التمييز و هنا نرى فائدة الشفافية و العلانية و نجد تطبيق عقوبات اقتصادية من المجتمع ذاته على من يقوم بالتمييز و ضغوط لتغيير القوانين للوصول الى الهدف و هو بلا جدال هدف سامي و هو التخلص النهائي من العنصرية و التمييز. لن تصل الولايات المتحدة لهذا الهدف في حياتي و لكنها تقترب اليه كل يوم. دعنا نتذكر ان الولايات المتحدة انتخبت باراك حسين اوباما رئيساً مرتين حتى نكون منصفين في حكمنا علي تقدم المجتمع و قدرته على معالجة مشاكله.
كمصري كم أودّ ان نسمح لانفسنا ببعض من التواضع الحقيقي، و كم أودّ ان اسمع يوما عن لجنة تقصي حقائق عن احداث تاريخية حتى نتعلم كشعب و نتعلم كدولة من اخطائنا، هل قمنا بتقصي حقائق حرب اليمن او نكسة ١٩٦٧ او الثغرة التي عقبت انتصارنا في حرب أكتوبر ١٩٧٣؟ لا لم نفعل و اذا فعلنا لم ننشر فهل تعلمنا؟ .. هل قمنا بتقصي الحقائق عن استخدام التعذيب و العنف الجنسي ضد المسجونين السياسين منذ عهد عبد الناصر؟ ماذا تعلمنا كأمة و كدولة من حركة التأميمات في الستينات؟ و ماذا عن اعتقال ما يزيد عن ألفين يهودي مصري بعد حرب ١٩٦٧ ؟ هل كان هذا خطا يجب ان نعتذر عنه؟ و الان تواجه مصر حرب شرسة ضد الاٍرهاب و هي حرب أشد خطورة من حرب امريكا ضد الاٍرهاب، هل هنالك ما نتعلمه من تقرير مجلس الشيوخ الامريكي؟ بلا جدال اعتقد ان امريكا قدمت للعالم كله مثال واضح للشفافية و الاعتراف بوجود فشل و مشاكل و انا لا اعرف طريقة لحل اي مشكلة لا تبدأ بالصراحة مع النفس.
ايمن سعيد عاشور
first appeared on Mada Masr