Tuesday, June 06, 2017

القومية المصرية والمراهقة الفكرية

تعظيم النفس وتحقير الآخر

رفضت فكرة العروبة من سبعينات القرن الماضي،  منذ فترة حياتي بلبنان كطفل وبعدها بالكويت.  بدأت مراحل التفكير في فكرة العروبة كرد فعل للانتقادات والتخوين ضد السادات بعد اتفاق وقف إطلاق النار الثاني سنة ١٩٧٤. قضيت ٧٥ و٧٦ في الكويت وأتذكر كتابة رسالة للأستاذ أحمد الجار الله في صحيفة السياسة الكويتية عن موضوع العروبة ونشره مقالة تحدث فيها عن رسالتي له وخوفه من انقلاب المصريين على فكرة العروبة.

في اوائل ايام رفضي للعروبة تبنيت فكرة عظمة مصر التاريخية وتفوقها على العرب وان كل شي عظيم مصري وكل حقير أصله العرب. ثم رحلت من الشرق الأوسط نهائيا عام ٧٧ وعمري ١٧ عام. قضيت سنوات متعلق بفكرة القومية المصرية وقرأت فيها الكثير . آنشات نادي مصري بالجامعة مستقل عن الأنشطة العربية وتعرضت لتهديدات بالقتل والمطاردة من البعثيين لتأييدي العلني لمبادرة السادات للسلام والتعاون مع النادي اليهودي لعقد مؤتمر باتحاد الطلبة عن السلام. أغلقت عيناي تمام عن معاناة الفلسطينيين وكان تركيزي الكامل هو مصر والقومية المصرية. تعمقت في قراءة تاريخ مصر الحديث وعن فكرة الهوية والقومية والصراع على هوية مصر. قرأت كل ما وصلت يدي له عن يهود مصر والصراع المصري الإسرائيلي وتاريخ الصهيونية في مصر وتحولها من حركة محترمة مقبولة شعبيا واجتماعيا إلى مسبة وشتيمة.

مرت السنوات وانتقلت إلى أمريكا. سيناء تحررت بالكامل، انشغلت بعملي واولادي وبعدت عن متابعة أحداث الشرق الأوسط.  بدأت الانتفاضة الفلسطينية الأولى ، كأني استيقظت من نوم عميق لأكتشف أن أهل فلسطين بعدهم يعيشون في المخيمات مشردين بين دول العالم. قرأت عن نشأة دولة إسرائيل وقرأت قصص النزوح من حيفا والقدس. قرأت عن سيدة فلسطينية قتل زوجها الأول في حيفا أثناء عودته من عمله واستغلال الإسلاميين للجنازة وهروبها إلى القدس ومنها إلى العراق ثم  لبنان في الثمانينات حيث قتل القصف الإسرائيلي زوجها الثاني. قرأت عن مذابح اليهود في العشرينات ومذبحة دير ياسين وعن تدمير القرى الفلسطينية.

قرأت عن الاستشراق والصورة البغيضة للعربي في الوجدان الغربي: الكسل، الخداع، الشذوذ، الجواري وتعدد الزوجات. اكتشفت ان المصدر الاساسي للاستشراق هو مصر وليس العرب أو الجزيرة العربية. يقال ان اليهود نجحوا في نقل صورة اليهودي الاستغلالي الجشع إلى العرب. هكذا نجح المصريون بدون ارادتهم في نقل عيوبهم الى الشخصية العربية وطبعا ساهم العرب بإضافتهم فلوس البترول والإرهاب في تكوين صورة بشعة عن كل ما هو عربي. كان امامي ان أستمر في الالتفاف حول أصلي وإن أبعد نفسي عن تلك الشخصية الكريهة في الغرب بالإصرار على مصريتي و رفضي التام لكلمة عربي. ولكني اعلم الان ان معظم ما يكره الغرب في "العرب" مصدره الأساسي هو مصر وليس بلاد العرب.

تحولت من المناظرات إلى الحوار وشاركت في العديد من جمعيات الحوار المصري العربي الإسرائيلي و الحوار اليهودي المسيحي الإسلامي. بدأت نشاطي في العمل ضد التمييز والعنصرية وتعلمت الكثير. بعد ٩/١١ تعلمت ان التمييز أعمى، فاقد البصر والبصيرة وأن الكراهية لا تمييز بين السيخ والمسلمين وبين المصري والعربي وبين المصري القبطي والمصري المسلم. شاء القدر أن ردود الفعل العنصرية لأحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ أصابت سيخ وأقباط قبل ان تصيب العرب والمسلمين.

قرأت عن ما حدث مع اليابانيين في أمريكا في الحرب العالمية.  اتذكر قصة صديقي روبرت ميادا الامريكي الياباني  الذي اعتقل كطفل صغير وكان يلقي محاضرات معي في المدارس في بوسطن في أمريكا كجزء من حملتنا لمواجهة الكراهية والعنصرية. سمعت عن قصص عن الصينيين الذين كانوا يعانون من تمييز بشع في الغرب الأمريكي وكيف كانوا هم الأكثر قسوة على اليابانيين. تعلمت ظاهرة إنكار الأصل وكراهية الذات من أصدقائي اليهود واليابانيين وغيرهم.

مرت سنوات اخرى و دعاني صديقي سامر صمويل إلى سفاري في صحراء سيناء. صديقي المصري القبطي خبير بسيناء واهلها. تعلمت منه الكثير عن عرب سيناء. تعلمت طبيعة حياة البدو ولغتهم وأكلهم والأدوار التي يلعبها الرجال و التي تلعبها النساء. تعلمت فكرة الزراعة عندهم وتعلمت كيف ابحث عن الاثار التاريخية القديمة التي تركها البدو. تعلمت ايضا اصل فكرة الترحال والتنقل ولماذا لم يترك العرب مباني ومعابد. تعلمت كيف يمارس البدو الدين واستعمالهم لتحية السلام عليكم والتغيير الذي يحدث من تاثير اهل وادي النيل. كذلك تعلمت ان سلو العرب يمثل نظام قانوني متكامل لعله يكون الأقدم بالعالم. تعلمت من صديقي فكرة البدو العرب عن الهوية، عن الملكية الخاصة، عن معنى كلمة العرب نفسها. كنت أقارن ما أراه أمامي وما اسمعه من صديقي مع ما قرات عن بدو صحراء مصر الغربية في كتاب ليلى أبو لغد عن مجتمع قبائل اولاد على.

انظر اليوم إلى العديد من كتابات المصريين المؤيدين للعلمانية والقومية المصرية  ولكتابات البعض من الأقباط واجد تحامل بشع على العرب. محاولات لا تتوقف لإلقاء اللوم على العرب لكل شيء سيء حدث لمصر. "مصر كانت قطعة من أوروبا قبل دخول الوهابيين" او  "مصر هي اللي علمتهم" او "دول خرجوا من الجمل على البي ام" . كل هذه الادعاءات تذكرني بأيام مراهقتي الفكرية. لن أكذب على نفسي وانا اعلم ان وباء الطاعون قتل في القاهرة أكثر من أي مدينة أخرى في العالم وإن قذارة مدن مصر لعبت دور كبير في تفشي المرض، لن ادعي ان الخلافات بين المسلمين والأقباط أثناء الحملة الفرنسية لم تحدث، لن ادعي ان اليد الأولى لتحرير المرأة كانت لرجل مصري وليس لسيدة سورية ولن ادعى ان الوفود الشعبية المصرية لم تذهب لفلسطين لتهنئة يهود فلسطين بوعد بلفور. لن ادعي ان أستاذ الجيل ابو الليبرالية  المصرية أحمد لطفي السيد لم يشارك بنفسه في الاحتفال بالجامعة العبرية بالقدس. لن ادعي ان الفلسطينيين باعوا الأرض وألقي المسؤولية على الضحية.

أرفض عروبة مصر لان مصر مصرية وليست عربية وأرى أن هوية الإنسان وهوية الوطن غاية في الأهمية. فرنسا أوروبية وليست ألمانية أو إيطالية وكذلك السعودية عربية وليست مصرية. يجمعنا مع العرب العديد من الصفات والعادات ولكنها لا ترتقي إلى التنازل عن هويتنا المصرية ولا عن تنازلهم عن هويتهم العربية. قد نكون سبقنا بعض العرب في الخروج من الظلام بعدة عقود ولكن هذا لا يعني اننا افضل منهم او انهم اقل مننا وها هم الآن يسبقونا وهذا لا يعني أنهم أصبحوا أفضل منا.  


القومية المصرية لا تعني التنصل من الفقر والجهل والمرض والتعصب الذي كان متفشي في مصر من قبل ومن بعد ظهور البترول. القومية المصرية الحقيقية تعني الانتساب إلى مصر بحقيقتها الفعلية والعمل على تغييرها الى ماهو افضل. القومية المصرية لا تعني الانتساب الى حقبة مجد الفراعنة وعدة صور وفيديوهات للطبقات العليا ايام الملك وتجاهل الباقي ولكنها تعني الاعتراف بالحقيقة وقبولها والانتساب إليها. دعنا نعبر مراحل المراهقة الفكرية ومحاولات تحقير الآخر!