http://www.alwafd.org/details1.aspx?nid=32899
by Dr. Kassem A. Kassem
رحيل رجل محترم
منذ أيام قليلة غادر دنيانا الصاخبة، في هدوء وصمت، لا يناسب عطاءه لهذا الوطن، رجل عظيم ومؤرخ محترم هو الدكتور سعيد عبدالفتاح عاشور الذي كان أستاذا لأجيال من المؤرخين العرب علي مدي عمره. والدكتور سعيد عاشور الذي كان أستاذا ملء العين والقلب عندما تتلمذنا علي يديه في جامعة القاهرة في ستينيات القرن الماضي، كان في الوقت نفسه مثالا للخلق الحميد، والاستقامة، وكان قدوة لتلاميذه الذين أسعدهم الحظ وتتلمذوا علي يديه في مرحلة الدراسات العليا، وقد عمل في عدد من الجامعات العربية حيث أسهم في تعليم أجيال كثيرة من أبناء الوطن العربي. لكن الأمر لم يقف عند حدود الواجبات الوظيفية للأستاذ، فقد كان الدكتور سعيد عاشور رائدا لدراسات التاريخ الاجتماعي في زمن كانت فيه دراسة التاريخ وكتابته معادلا لسير الحكام والقادة والجالسين علي قمة الحكم، كان التاريخ يكتب علي أساس ان الشئون السياسية هي التاريخ بشكل أو بآخر، كما كان »التاريخ من أعلي« هو النبرة السائدة وجاءت كتابات سعيد عاشور عن المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك بحكايات عن أحوال المنسيين والمهمشين وحدثنا عنهم. ولم يقف جهد الأستاذ عند هذا الحد، وإنما واصل جهده في تكوين مدرسة عربية مهمة في التاريخ الاجتماعي وتتلمذ علي يديه عدد من المؤرخين المصريين والعرب الذين تناولوا كافة جوانب التاريخ الاجتماعي في العصور التي شهدت تفوق الحضارة العربية الإسلامية وسيادتها.
وإن نظرة علي مؤلفات تلاميذ المؤرخ الكبير الراحل لتكشف عن أن بصمات الأستاذ كانت ولم تزل واضحة تمام الوضوح في هذا الميدان، وعلي اتساع الوطن العربي في مشرقه وفي مغربه. كان الدكتور سعيد عاشور، عليه رحمة الله، رائدا أيضا في مجال الكتابة عن تاريخ الحروب الصليبية، وكان من أوائل الذين أدركوا علاقتها الجوهرية بتاريخ العرب الحديث ونضالهم ضد الاستعمار والصهيونية، كما كانت كتاباته فاتحة لدراسات كثيرة في تاريخ الحروب الصليبية أسفرت في النهاية عن بروز مدرسة عربية متمايزة في هذا المجال، ولم يعد الحديث عن الحروب الصليبية مجرد ترديد لآراء المؤرخين الغربيين وأفكارهم مثلما كان الحال قبل نصف قرن مضي. وكان الأستاذ هنا أيضا حريصا علي تكوين أجيال من الباحثين المتخصصين في دراسة تاريخ الحركة الصليبية من بين أبناء البلاد العربية المختلفة. وربما كان يشعر بأن واجبه العلمي والوطني والقومي لا يمكن أن يظل حبيس الأسوار الأكاديمية، ومن ثم فإنه مارس نشاطا تثقيفيا وأكاديميا مهما في كل مكان ذهب إليه وعمل فيه ومن ناحية أخري، كان الدكتور سعيد عاشور مهتما بالمشاركة في نشاط الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، كما كان رئيسا لاتحاد المؤرخين العرب منذ تأسيسه في بداية التسعينيات من القرن العشرين حتي احتجزه المرض منذ عدة أشهر في منزله إلي أن صعدت روحه الي بارئها، رحمه الله.
عرفت الأستاذ والمؤرخ والأب الروحي سعيد عاشور منذ كنت طالبا بقسم التاريخ في جامعة القاهرة أوائل الستينيات، وأتصور أن معرفتي بالراحل الكريم تعطيني الحق في أن أتحدث عنه بفخر من تتلمذ علي يديه، ومن تعلم منه معني كرامة العلم والعلماء. كانت العلاقة حميمة منذ السنة الأولي لي في قسم التاريخ واستمرت حتي الآن- وبعد الآن إن شاء الله- فالأساتذة الأجلاء لا يموتون وانما ترحل أجسادهم الفانية ويبقون أحياء بما تركوه من علم نافع، ومن تلاميذ يواصلون رسالتهم، ويحاولون ان يستكملوا دورهم. لقد رحل الأستاذ، ولم يتحدث عنه أحد سوي اعلان كئيب في صفحة الوفيات ولكن الذين عرفوا فضله وتربوا علي ثمار علمه يعرفون ان الرجل أكبر من الكلام. وليسامحني كل من يظن أنني أتحدث عن علاقة شخصية لأنني أتحدث عن رحيل رجل محترم، ومؤرخ كبير، وعالم فذ.. رحمه الله.
No comments:
Post a Comment