ينظر اتباع الاسلام والمسيحية إلى تاريخ دينهم بنوع من الشوق والإعجاب. ننظر إلى فترات بداية انتشار الدين وكأنها كانت فترات جميلة و نقية وبريئة، كان الدين فيها واضح وخالي من الشوائب قبل الاختلاف والتشتت إلى طوائف متباينة. في الإسلام ننظر إلى حقبة الخلفاء الراشدين بإجلال وخشوع ونسمع القصص عن السلف الصالح والتطلع إلى قيام دولة تماثل حقبة الخلفاء الراشدين وكذلك في المسيحية نسمع عن الفترات قبل الاختلاف بين الكاثوليك والارتوذكس وعن التوافق الذي ساد في أوائل أيام المسيحية مع بداية عمل الْحَوَارِيُّونَ في نشر رسالة واضحة من يسوع.
يسمح مناخ الحريات في الغرب بدراسة تاريخ الأديان بصورة علمية بحتة بعيدة عن الدراسات الروحانية والقدسية ولذا نجد في العقود الأخيرة كم ضخم من الدراسات عن تاريخ المسيحية وهذه الدراسات تقدم لنا صورة مختلفة عن الصورة المعهودة. يقدم لنا بارت إيرمان أستاذ الأديان بجامعة نورث كارولينا في كتاباته صورة عن صراع ديني بدءا من أول أيام المسيحية ويقدم لنا طوائف انتهت تماما بعد تكفيرها و اضطهادها من قبل التيارات التي انتصرت وكما يقولون "التاريخ يكتبه المنتصرون".
الطائفة الأبيونية كانت بالأساس يهودية تؤمن أن يسوع هو فعلا المسيح ولكن تفهم كلمة المسيح من اللغة العبرية بمعني من مُسح وجههُ بالزيت كإشارة أو علامة لإعلانه ملك اليهود أو ملك إسرائيل. كان الأبيونيون ينظرون إلى يسوع على أنه بشر اختاره الرب لخضوعه لتعليمات التوراة ولطاعته له. التحول إلى المسيحية في نظر الأبيونية كان يتطلب عمل الطهارة واتباع قواعد الأكل اليهودي واحترام تقاليد السبت وبعد كل ذلك اتباع تعليمات يسوع المسيح. لم يُؤْمِن اتباع الأبيونية بفكرة الخلاص وكانوا يعتبرون أن يسوع بعد صلبه عاد إلى ربه.
الطائفة المارصونية كانت عكس الأبيونية تماما، وكانت تري المسيحية دين جديد وكانت ترفض اليهودية والعهد القديم وكذلك ترفض رب اليهودية. المارصونييين كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة وكانوا يَرَوْن رب اليهود اله غاضب ولكن رب المسيحية اله محبة ورحمة. وكان المارصونييون يؤمنون بأن يسوع لم يكن يوما بشر ولكنه منذ أول أيامه بصفته الإلهية ولذا لم يكترثون بصلب جسد يسوع. كتاب المارصونية المقدس كان بالأساس رسائل بولس الرسول وأجزاء من إنجيل لوقا واعماله.
الطائفة الغنوصية أو المسيحية المعرفية كانت ترى أن يسوع بدء كبشر وعند بداية رسالته نزل المسيح كوجود رباني إلى جسد يسوع وخرج من جسده قبل صلبه وكانوا يقدمون ما ورد بإنجيل مرقس دلالة على صحة عقيدتهم حين صرخ يسوع وهو على الصليب قبل الموت "يا إلهي لماذا تركتني". المسيحية المعرفية كانت ترفض تماما فكرة الخلاص وكانت ترى الطريق إلى الجنة هو معرفة الذات باتباع التعاليم السرية للمسيح. اعتقد أتباع المسيحية المعرفية أن اتباع تعاليم المسيح كما وردت في رسائل بولس الرسول وإناجيل مرقس ومتى ولوقا هي مرحلة أولية قبل مرحلة اتباع التعاليم السرية الخاصة بهم كما وردت في إنجيل توما وباقي تعاليمهم وكتبهم.
إيلين بيجليز أستاذة الأديان بجامعة برينستون ترى ان إنجيل توما سبق إنجيل يوحنا وان إنجيل يوحنا كتب بالأساس للهجوم على إنجيل توما ولذا وصف يوحنا توما بأنه مليء بالشكوك. ورد اسم توما في الاناجيل الاخرى ولكنه كان كواحد من الحواريين بدون أي صفة سلبية. ترى بيجيلز ايضا ان انجيل يوحنا هو صاحب التأثير الأكبر في تكوين المسيحية على الرغم من أنه كتب بعد ما يقارب ستة عقود بعد صلب يسوع.
طبعا كل هذه الطوائف أعلاه تم تكفيرها وإعلانها هرطقية وعندما اتبعت الدولة الرومانية المسيحية كدين رسمي استخدمت قوة الدولة في محاربة هذه الطوائف وفِي حرق كتبها. الأدلة التاريخية التي استعملها المؤرخون كانت مخطوطات قديمة نجت من الحرق ومن كتابات أباطرة المسيحية الكاثوليكية لمهاجمة هذه الطوائف أعلاه. نرى أمامنا تاريخ صراع ضخم بين أفكار متباينة بدأ منذ أوائل أيام المسيحية. انتصرت فكرة الخلاص وفكرة أن المسيح يسوع كان له طبيعة بشرية كاملة وطبيعة إلهية كاملة، وكذلك انتصرت فكرة الثالوث المقدس. هذه الأفكار تعتبر اليوم ركائز أساسية للمسيحية.
انتشار الدراسات التاريخية العلمية عن المسيحية في العقود الأخيرة لم يهدد المسيحية في الغرب وربما نرى في نجاح التيار الديني في الانتخابات في الولايات المتحدة دليل على أن الأديان قادرة على الدفاع عن نفسها فكر بفكر. الإنجيل رغم النقد الذي يتعرض له من الناحية التاريخية لا يزال أوسع كتب العالم في الانتشار. استقلال الدين عن الدولة في الغرب فتح المجال للدراسة التاريخية بدون رقابة ولا قيود. وسائل التواصل الاجتماعي في الشرق بدأت في مناقشة العديد من التابوهات ونرى أمامنا زيادة في مناقشات مواضيع مثل أصل التقويم الهجري القمري الشمسي وتحوله إلى تقويم قمري قمري ونقرأ أيضا عن نشأة الدولة الأموية وعن أصل النزاع بين السنة والشيعة، الدور الذي قام به معاوية ومن أيده من الصحابة يتلقى مناقشات ومراجعات ولكن بحرص خوفا من عواقب غضب المؤسسات الدينية أو الدولة. في الغرب وباللغات الأجنبية نجد أبحاث في تاريخ نصوص الحديث ولكن قليل ما يتم ترجمته للعربية مثل كتاب السلطة والتسلط في الفتوى بقلم العالم الأزهري د. خالد أبو الفضل أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة يو سي ال ايه الامريكية. اجلا او عاجلا سيأتي البحث التاريخي العلمي المستقل في الأديان إلى قراء اللغة العربية وهذا أمر لا يهدد الأديان ولا يهدد المجتمع ولا يهدد الدولة. إتاحة الفرصة للحصول على الدراسات والمعلومات التاريخية العلمية يفتح الطريق لكل إنسان للسعي خلف الحقيقة والوصول إلى ايمان عن علم وليس عن طريق التغييب العقلي.
أيمن سعيد عاشور