Monday, April 22, 2013

ماراثون بوسطن


بوسطن مدينتي و بيتي، قضيت فيها أطول فترة من عمري ورغم انتقالي للحياة  في أوروبا في ٢٠٠٩ لازالت بوسطن كما نقول بالانجليزية : "My home town" . كنت في رحلة عمل في استراليا في ذلك اليوم الحزين ، يوم الاعتداء الجبان على الماراثون في بوسطن. الإحساس كان كأن  اقرب الناس اللي قد تعرض الي فاجعة أو كارثة. و ربما وجودي في مكان بعيد عن أسرتي وعن بوسطن وفارق التوقيت وقلة النوم كانوا عوامل زادت من مشاعري بالصدمة والحزن العميق. مصدري الأساسي للأخبار هو تويتر وعندما نتابع أنباء وتطورات من هذا النوع بسرعة شبكات التواصل الاجتماعي الإحساس بالتوتر والقلق يتضاعف.

الغالبية العظمى من التغريدات كانت من شبكات الأنباء العالمية و صحف ومصادر إعلامية من بوسطن نفسها والعديد من المتعاطفين مع ضحايا المذبحة يعبرون عن مشاعرهم تجاه الصدمة وغضبهم وخوفهم. نسبة محدودة من التغريدات كانت تحتج علي اهتمام العالم ببوسطن على حساب أحداث أكثر بشاعة. لفت نظري بالأخص تغريدة من شاب مصري فيها نوع من التهكم عن النفس وكانت بمعنى أن المصريون لا يجرون إلا للهروب من كلب أو للحاق باوتوبيس أو حافلة نقل. وكانت تغريدة الشاذلي هي اول تغريدة قابلتها تحتوي على نوع من المزح ورغم أنها كانت تهكم على النفس 
.إلا أنها زادت من حزني واغضبتني

للأسف الشديد نسبة عالية من الشباب المصريين يدمنون التدخين وأقلية محدودة تمارس أي نوع من الرياضة وهذا التعميم انطبق علي أنا أيضا حتى أوائل الثلاثينات من عمري. بعد توقفي عن التدخين بفترة قصيرة بدأت رياضة الجري وبعدها بفترة انتقلت مع أسرتي إلى بوسطن. وبعد عدة سنوات من الجري مرة أو مرتين كل أسبوع حدث شئ هام في حياتي لاذلت اتزكرة بوضوح. كان يوم عيد الوطنية أو بالأحرى عيد المواطنة وهو يوم ذكرى حادث هام في بدء الثورة الأمريكية وهو إجازة رسمية في ولاية ماستشيوستس وعاصمتها بوسطن ولكنه يوم عمل عادي لدي الأغلبية العظمي من الأمريكيين. و تحتفل بوسطن بهذا العيد يوم الاثنين في شهر أبريل من كل عام في وقت متقارب مع أعياد الفصح، وينطلق سباق الماراثون في منتصف اليوم كل عام في عيد المواطنة. وفي عام ١٩٩٧ كانت هناك احتفالات عديدة بالذكرى المئوية الأولى لسباق البوسطن ماراثون و سمح لعدد قياسي من العدايين بالمشاركة. وكانت هذا اليوم اول مرة اذهب لمشاهدة سباق الماراثون حيث يمر طريق الماراثون بالقرب من بيتي. مسافة الماراثون ٢٦.٢ ميل أو ٤٢ كيلومتر ومنزلي يقع قريب من الكيلومتر ال ٢٩. وجدت الطريق مغلق تماماً للسيارات و أعداد غفيرة من الناس في انتظار السباق، وجدت كل جيراني تقريبا، أطفال و كبار والعديد من خارج المنطقة حضروا للفرجة. كارنيفال أو مهراجان في الشارع في انتظار وصول المشاركين في السباق.

وفجأة زادت الحركة ومرت عدة سيارات شرطة و بعدئذ سمعت تصفيق حاد ومرة سيارة مفتوحة بها شيخ في الثمانينات وهو جون كيلي الذي شارك في البوسطن ماراثون ٦١ مرة ويعتبر رمز لهذا السباق. بعد دقائق وصلت اول مرحلة من السباق وهم ذو الاحتيجات الخاصة على مقاعدهم، الرجال ثم النساء بعدهم. يصعب وصف الإصرار على وجوة هؤلاء المتسابقون. و بعد تقريبا نصف ساعة الحدث الرئيسي وصول اسرع عدائي الرجال و بعدهم بحوالي ربع ساعة النساء. ولا ينقطع مرور العدايين رجال و نساء. الكارنيفال في الشارع لا يهدأ ، تشجيع لأشخاص بعينهم أو للجميع، تقديم ماء أو مشروبات طاقة ، المدينة كلها في الشارع تحتفل بالماراثون بعد شتاء بوسطن الطويل. تركت الصخب وعدت الي بيتي لتناول طعام الغذاء وبعض مكالمات العمل حيث أنة كان يوم عمل طبيعي في أمريكا خارج الولاية. وبعد ساعتين تقريبا عدت الي طريق الماراثون ، انخفض عدد المتفرجون نوعا ما ولكن جو الكارنيفال لازال موجود و استمرت أعداد المشتركون في السباق، اقل سرعة و أحيانا أكبر عمرا أو وزنا من الأوائل، كنت أشاهد ناس مجهدة، بعضهم كان يجري في الم واضح وبعضهم كان يعاني من أنواع الشد العضلي وآخرون كانوا يعانوا من احتكاك الجلد وفي بعض الأحيان رأيت دم على ملابسهم وملح ناشف على وجوههم. بعضهم كتب أسمائهم على ملابسهم فكان التفرجون يصيحون تأييدا لهم بالاسم وآخرون كتبوا على ملابسهم أسباب مشاركتهم في السباق من أحياء ذكرى قريب أو حبيب إلى جمع تبرعات لعمل خيري الي العديد من الأسباب المختلفة.


وقفت أكثر من ساعة اشجع و بالتدريج قل عدد المتفرجون والمشاركون وقاربت الساعة الخامسة وقل العدد اكثر وفتحت الشرطة نصف الطريق. كنت أتخيل أن عدد من المشركين لن يتمكنوا من الوصول الي النهاية والآخرين قد يصلوا بعد حلول الظلام ولكني كنت أشجعهم و ابتسم لهم واصفق أحيانا، ما اشجع هؤلاء الناس وما أقوى عزيمتهم وإصرارهم٠ كنت على مدى السنوات السابقة أمارس رياضة الجري ولكن لمسافات قصيرة لا تتجاوز عدة كيلومترات ولكن يومها عقدت العزم .على جري الماراثون و تصورت أنة من الممكن أن أشارك في البوسطن ماراثون بعد سنتين

ثابرت في التدريب وكنت استيقظ قبل الفجر لأتمكن من الجري قبل العمل وكنت اجري ٥ أو ٦ مرات في الأسبوع و كانت ظروف عملي تستدعي سفري المتواصل فكنت اجري في أماكن عديدة وبلاد كثيرة من هونج كونج والصين الي الهند و سينغافورة ومن اليابان واستراليا الي بريطانيا وهولندا. وطبعا كنت اجري في طريق الماراثون لقربة من بيتي وحتي يزيد مراني على نفس مسار الماراثون. مناخ بوسطن في الشتاء شديد البرودة ولكن لم يمنعني برد قارص أو ثلج أو مطر أو حتى حر الهند من المثابرة على التمرين، كنت أتذكر نظرات الألم والمثابرة التى رايتها في البوسطن الماراثون السابق وارى نفسي في الماراثون. شاركت في سباق النصف ماراثون في فبراير في مدينة قريبة من بوسطن وسباق آخر بطول ٢٠ ميل في جو شديد البرودة على ساحل المحيط الاطلنطي وقبل السباق بثلاثة أسابيع بدأت تدريجيا إقلال التدريب كما كانت تنصح كتب رياضة الجري وكتيبات التدريب التي وصلتني بعد تسجيلي البوسطن ماراثون عام ١٩٩٨.

وأخيرا يوم الماراثون، استيقظت مبكرآ وذهبت مع زوجتي إلى مدينة هوبكينتون ١٨ ميلا غرب منزلي وهي نقطة بداية الماراثون. مدينة أو بالأصح ضاحية صغيرة بدت مكتظة بآلاف المشتركين في السباق. كان الجو بارد بعض الشئ ولايجود مكان للجلوس إلا في منتصف الشارع و حوالي الساعة التاسعة تم إغلاق معظم الشوارع للسيارات، ومضى الوقت بطيأ ومع اقتراب الساعة ١١ ظهرت مشكلة عدم كفاية دورات المياة المتنقلة وكانت الطوابير طويلة للغاية٠ سلمت حقيبة صغيرة عليها رقمي وبها احتيجاتي الي المسؤولين لاستلامها بعد خط النهاية وذهبت للانتظار في مكانى في الخلف. كنت أتوقع إكمال الماراثون في حوالي اربع ساعات ونصف على الأقل٠ سمعنا صوت إقلاع المعاقون أو ذوي الاحتياجات الخاصة كما نطلق عليهم في أمريكا احتراما لقدراتهم الفذة ونجاهم في تحقيق الكثير من الإنجازات ولو بطرق مختلفة نسبيا. وفي تمام الثانية عشر سمعنا طلقة مسدس بداية الماراثون و صفق الكثير وسمعنا صرخات السعادة ولكن لم نتحرك بعد. وأخيرا بدأت الحركة ببطآ شديد و أخيرا وبعد خمس عشر دقائق عبرت خط البداية و بعد خمس دقائق أخرى تمكنت من بدء الجري لكن بحرص نتيجة الزحام الشديد وبعد دقائق محدودة فتح الطريق، اخيرآ.


لايمكن أن اوصف شعوري بسهولة في تلك اللحظات أو بالأحرى اول ساعة، كان هناك نوع من النشوة ولكن بالأكثر كنت اشعر بالخوف، كنت أخشى أن لا انجح في إكمال الماراثون أو أن أعاني مشاكل من عضلات أو تنفس أو أي مشاكل أخرى. كان يجب إلا اسرع في البداية حتى لا افقد قدرتي على المثابرة الي الآخر. النصف الأول من الطريق في انحدار مستمر مما يشجع على زيادة السرعة ولكنة أيضاً يزيد الحمل على الرجلين ويؤثر سلبيا على العضلات. الجماهير تحوط بالطريق تشجعنا و تصفق لنا ونصل الي كلية وليزلي  وهي تعد من اشهر الكليات النسائية في أمريكا و ههنا يبدأ مايعرف بحارة الصريخ حيث يضيق الطريق لزيادة عدد المشجعات و نعامل كأبطال وللأسف تزيد السرعة رغم استمرار الطريق في الانحدار. و اقترب من منطقتي بعد اكثر من ثلاثة ساعات ، منطقة التلال في مدينة نيوتن، منطقة الصعود، هذة منطقتي التى اعرفها جيدآ٠ وها أنا اقترب من بيتي واسمع ابنتي ثم ابني يصيحان باسمي وجيراني وأولادهم. أحيي الجميع واستمر واعاني من مغص في معدتي والإحساس بالبرد ولكن استمر. وتنتهي مرحلة الصعود ونصل الي كلية بوسطن وأصوات الموسيقي الصاخبة. آخر ثلاثة أميال صعبة، طريق عريض والرياح قوية قادمة من المحيط في مواجهتنا باردة ، وأحس بالضعف والبرد ولكني مطمئن أني ساكون قادر على إتمام الماراثون. وبعد ثلاثة أميال مملة ينعطف طريق الماراثون الي اليمين ثم الي اليسار علي شارع بويلستون ويقرب خط النهاية بالقرب من مكتبة بوسطن. واعبر خط النهاية..... لقد أكملت الماراثون ويتقدم اللي شاب ليضع ميدالية إكمال الماراثون حول عنقي وفتاة تطلب مني أن تحصل الميكروتشيب المربوط بحذاءي والذي يثبت إكمالي لجميع المراحل. قامت هي بفك الحذاء وأخذ الميكروتشيب. ارتعش واجد صعوبة في المشي واحصل علي حقيبتي مقابل الإيصال.


شاهدت أسرتي الحبيبة قبل عبور خط النهاية على يسار شارع بويلستون ولكن لا أتذكر حضورهم معي لاستلام اغراضي، اعتقد أني دخلت خيمة كبيرة للمشاركون في السباق فقط وحاولت أن أتجنب البرد بعض الشئ واشرب سوائل لتعويض بدني عما فقدته. لقد كسبت السباق وحصلت على الميدالية، لقد أكملت الماراثون بعد عام واحد من وقفتي كمتفرج. وكنت انظر حولي واري الكثيرين وفي عيونهم دموع من الفرح ومن الأم العضلات واحيانا من المجهود والتعب. كلنا كنا من الفائزين رغم أن اول من عبر خط النهاية سبقنا بأكثر من ساعتين ونصف ساعة. قربة العشرون ألف متسابق أكملوا الماراثون وكل شخص منا له قصة خاصة بة دفعته للمشاركة و للتدريب، حكايات وحكاوي من كل رجل وامرأة من أصغر شابة في العشرين من عمرها الي من فوق السبعين. وكما كانت أسرتي الصغيرة تعيش حلمي في إكمال الماراثون وتتباع خطوات تدريبي وتؤيد نئ وتقلق علي، كان لهؤلاء الآلاف احباءهم وأقربهم يؤيدهم ويتابعون حكايتهم.

اهتمام بوسطن بالماراثون يعود الي أنة اقدم ماراثون في العالم ولانة يوم إجازة خاص بنا دون عن أمريكا ككل وعن أنة يوافق نهاية الشتاء القارص و اول يوم في إجازات الربيع للمدارس ولكن اهم شئ هو القصص والحكايات التي تدعوا الآلاف إلى المشاركة في السباق والجو العائلي الجميل على طول ممر الماراثون من هوبكينتون إلى خط النهاية بجوار مكتبة بوسطن المركزية. يوم الماراثون في بوسطن يوم احتفال بقدرة الإنسان العادي على تغيير نفسة على تحقيق إمالة علي الانتصار على ضعفة على ادمانة...يوم تحقيق آمال عديدة، آمال إيجابية خالصة ، لا تشمل كراهية أو سلبية ... يوم احتفال اجتماعي كبير واحتفالية بالإنسانية و بقدرتنا كبشر على المثابرة وإخضاع أجسادنا لتحقيق أهداف شريفة ونقية.

كتب الكثيرون عن الاعتداء القاصي الجبان على الماراثون و شجب الجميع قتل الأبرياء ولكن لم يتفهم الكثير من الناس الشعور بالصدمة و مدى الحزن والغضب الذي حل ببوسطن بالأخص وأمريكا والغرب بشكل عام. حاولت في هذا المقال أن اقدم ما يعني البوسطن ماراثون لي كمصري أمريكي ، كمواطن من أهل بوسطن. ولقد أكملت الماراثون في بوسطن بعد هذه التجربة الأولى مرتين وكان لكل مرة حكاية وقصص وأسباب. و الآلاف الذين شاركوا في السباق وأهلهم واحبابهم كلهم لهم قصصهم و الأكثر من مليون مشاهد من اول الماراثون في هوبكينتون إلى خط النهاية حضرو للاحتفال والبهجة وللاحتفالية بقدرة الله عز وجل على خلق الإنسان وتكوينه و هبتة القدرة علي تسخير جسدة وعقلة لإنجاز الصعب. القنابل والإرهاب والدم هي في الحقيقة ليست تحدي لبوسطن أو لأمريكا و لكن تحدي للإنسانية بما يشمل ذلك من تحدى إلى الخالق الجبار

ايمن عاشور

3 comments:

MuhamedNayer said...

جميلة يا ايمن اوي خلتني انا نفسي حابب اشارك و الاجمل ان مهرجان او مسابقة سنوية تقام يكون ليها آثر عاطفي على ذكريات حد فينا

Amr said...

جميلة يا ايمن. وبالعربي :-)

Unknown said...

احسنت يا أيمن وأتمنى مزيدا من المشاركات بالعربية، مودتي