مصر تعيش في حالة ثورة، ثورة اجتماعية صاخبة، تتحدى العديد من التابوهات. قناعتي اليوم أن ٢٥ يناير كانت بداية انفجار تلك الثورة على الكثير من التقاليد والأفكار السائدة في المجتمع. الجانب السياسي لـ ٢٥ يناير كان بالأساس انتفاضة رفض لحكم وشخصية حسني مبارك، وعدم وجود رؤية سياسية بديلة متوافق عليها هو ما أدى إلى ما وصلت إليه مصر اليوم. ربما لم تكن هنالك ثورة سياسية حقيقية حتى تنجح أو تفشل ولكن الثورة الاجتماعية وصراعاتها وتداعياتها بلا شك حقيقةً مستمرة.
ثورة مصر الاجتماعية لا تزال تعبر عن نفسها بأساليب متباينة من موسيقى وجرافيتي إلى شعر وتصوير وبلوجات. الثورة الاجتماعية موجودة في ملايين البيوت في مصر ضد الآباء والأمهات وفي المدارس والجامعات وأماكن العمل ضد المدرسين وأصحاب السلطة وفي المساجد والكنائس ضد رجال الدين وتقاليدهم. وكذلك ربما تكون المعارضة الشديدة والكراهية التي نراها حولنا من العديد من الناس لثورة ٢٥ يناير تكون أيضًا في الأساس معارضة وكراهية للتغيير الاجتماعي الذي نراه حولنا أكثر من ما هي رغبة في عودة مبارك ونظامه. أصبح مبارك رمزًا لمجتمع بعينه، مجتمع طاعة الكبير، مجتمع السلطوية والذكورية وتبريرات لا تنتهي لهما، مجتمع لا توجد به علياء المهدي وصورها، مجتمع لا يوجد به أمثال باسم يوسف وسخريتهم اللاذعة، مجتمع ما قبل الجهر بالإلحاد وأمثال ألبير صابر ومن يسمي نفسه كريم الديب، مجتمع يتقبل ملحدات متحجبات صامتات على إلحادهن، مجتمع لا توجد به ألفاظ غريبة ككلمة مثليي ومثليين، مجتمع مليء بأفكار قذرة وتعبيرات راقية جميلة تداري قذارة الأفكار والأفعال، مجتمع مليء بالتناقضات الصامتة المختفية، مجتمع يتقبل الغاية تبرر الوسيلة من القوي ويرفضها من الضعيف.
تواجه مصر الآن ظاهرة جديدة، هي انتحارات الشباب، اعتقادي الخاص أن انتحارات الشباب بدأت منذ فترة ولكن الرغبة في الكذب على النفس لأسباب عدة جعلتنا نرفض تصديقها إلى الأسابيع القليلة الماضية. رفضنا قبول أن صديقًا ما أو قريبة لنا قاموا بالانتحار، رفضنا لأسباب دينية.. رفضنا لأن انتحار عزيز علينا يعني أننا لم نقف بجانب أحبائنا بقدر كافٍ؛ لأنهم فقدوا الأمل ولم نكن بجوارهم نمد أيدينا إليهم ونعيد لهم الأمل المفقود، ننكر انتحارهم لأنه يخيفنا نحن من أنفسنا، لأننا مثلهم ولكننا نخشى الموت المخيف، ولكن الآن نجد أمامنا موجة الانتحار بالشنق تتحدَّانا، صعّب أن ننكر الانتحار. حتى في انتحارهم شباب مصر يرغموننا على مواجهة الحقيقة، لم يعد من الممكن أن نقول إن فلانة ماتت مخنوقة لخطأ ما في غاز السخان أو أن فلانًا تعثر وسقط من طابق علوي.
ما أسباب موجة الانتحارات التي نراها، وهل هي فعلًا في تزايد حقيقي؟ للأسف الإحصائيات الموجودة لا تسمح لنا بمعرفة الحقيقة بطريقة علمية؛ لأن ما يسجل على أنه انتحارهو فقط ما كان مستحيلا إلحاق سبب وفاة آخر به، ولذا نجدنا في مرحلة تخمين وتوقعات مبنية على رؤيتنا للأحداث والتغيرات حولنا.. باختصار تكهنات. هل الإحباط السياسي ونظام الحكم الحالي هو ما يؤدي إلى زيادة معدلات الانتحار؟ لا أظن أن هذا هو السبب ولكن قناعتي أن الأسباب في الانتحار عادة تكون في نطاق الميكرو وليس الماكرو، بمعنى أنها تكون أكثر قربا إلى الإنسان نفسه وما يلامسه شخصيًا. أفكر في نفسي، هل سأفكر جديًّا يومًا في الانتحار؟ أعلم أنني لا أريد أن أعيش حياة والديّ في معاناتهما من أمراض الباركينسون والزاهيمر في أواخر أيامهما. على مستوى الميكرو بالنسبة لي شخصيًا هل يكون إنهاء حياتي يومًا ما أفضل من معاناتي من مرض عضال، لا شفاء منه، وانتظاري للموت في تدهور ذهني وصحي مستمر؟ وهنا أصل إلى كلمة مهمة وهي الأمل.. إذا وصلت إلى مرحلة شعرت فيها أنه لا أمل لدي في الحياة الكريمة كإنسان هل عندئذ أفضل الموت؟ أتذكر حوارًا مع أخي منذ سنوات عدة، عن معاناة أمي، رحمة الله عليها، من الزاهيمر، قلت له إن موتها سيكون رحمة لها، وإنني من حبي لها أرغب في رحيلها، ولكن أخي بفلسفته وروحانيته وجماله اختلف معي واستفاض في الدور الإيجابي الذي تلعبه أمي في لم شمل ما تبقى من الأسرة، وكم هي تمر بلحظات تحتوي على سعادة تشابه سعادة وبراءة الأطفال. حتى في سنواتها الأخيرة ومعاناتها من ذلك المرض القاسي اللعين وبلا إرادة منها تمتعت أمي بفترات سعادة وعطاء، كيف إذًا أتوصل إلى فقدان الأمل؟ الزاهيمر يسرق جوهر الإنسان من جسده، ما أقساه ولكن القدرة على العطاء استمرت.
تحدثت عن نفسي لأنني لست بطبيب نفسي أو متخصص في علم النفس وطريقتي في معالجة موضوع تزايد الانتحار ما هي إلا انعكاس لأفكاري أنا على الموضوع. فقدان الأمل في سعادة الذات بالأساس هي السبب الذي يجعل الإنسان يصل إلى قرار الانتحار، الشعور بألم عميق والوصول إلى قناعة بأن المعاناة لن تنتهي يومًا، ربما عند البعض يوجد عامل آخر، هو انعدام الأمل في القدرة على العطاء وسعادة الآخرين. ولكني أكتب اليوم أفكاري عن الانتحار كرجل في منتصف الخمسينات من عمري، كيف أتفهم عقلية الشابة العشرينية التي شنقت نفسها أو الشاب الذي ألقى بنفسه أمام المترو؟ اعتقادي أن الوصول إلى مرحلة فقدان الأمل في السعادة المستقبلية أو استمرار المعاناة هو واحد، الفارق الأساسي هو أنه عند مواجهتي لمرحلة العجز والمرض في الشيخوخة والكبر احتمال صوابي المطلق أكبر من احتمال صواب من هم في العشرينات في صراع مع آلام نفسية حادة، في كل الأحوال الانتحار ما هو إلا محاولة لحل مشكلة الأمل المفقود. عندما أصل إلى مرحلة مواجهة مرض مثل الزاهيمر، قد أكون محقًا في فقدان الأمل ولكن الانتحار حل نهائي لمشكلة مرحلية، تحليلي للمشكلة على مشارف كبر السن وثمن الخطأ يختلف تمامًا وأعتقد أن تلك نقطة البداية في التعامل مع الظاهرة المحزنة التي نراها أمامنا. هل استحالة الضحك والسعادة حقيقة فعلية ونهائية أم أن هنالك أملاً حتي من خلال شبورة الزاهيمر الكثيفة؟
الثورة الاجتماعية ومحاولات إحباطها تقدم لنا سببًا أكبر في فقدان الأمل علي مستوي المايكرو، على مستوى الإنسان ذاته، أسرته، أصدقائه، مكان عمله، أو حتى بطالته، الأمل في السعادة والعطاء يتعلق أكثر برفض الأصدقاء لخلع الحجاب أكثر من وجود قانون التظاهر أو عدمه، الفشل في مشروع ما أو علاقة مع حبيب تفقد الأمل في الحياة أكثر من براءة حسني مبارك أو أحكام الإعدام الجماعية. فقد القدرة للحصول على عمل يحترم الكبير الصغير فيه كإنسان تفقد الشاب المكافح الأمل في النجاح أكثر من إخلاء الشريط الحدودي مع غزة. دعنا نبتعد عن الماكرو ونتذكر أن المايكرو هو ما يسيطر على وجدان من يفكر في الانتحار. الثورة الاجتماعية أيقظت أحلامًا كبيرة ورفضت الإجابات المألوفة لكل المشكلات، ثورة حقيقية تسيل فيها الدماء، أحدثت تغييرًا شاملًا في نظرة الشباب لكل شيء.
كيف نتدخل.. كما نعلم الانتحار حل نهائي لمشكلة قد تكون مؤقتة، وهنا مربط الفرس. كيف نساعد شابًا في السادسة عشر من عمره أو شابة في الثلاثينات أو رجل في الأربعينات في اتخاذ قرارهم بالانتحار أو العدول عنه، السؤال الحقيقي هو: كيف نساعدهم في العثور على الأمل؟.. الأمل في نهاية للمعاناة، الأمل في السعادة، القدرة على العطاء؟ أعتقد أن الأسلوب الديني لا يجدي مع إنسان يفكر جديًّا في الانتحار؛ لأن لكل منا قناعته الدينية وقناعتك الدينية أن الانتحار كفر لن تدخل في حساب الآخرين، وصول إنسان إلى مرحلة التفكير في الانتحار تعني أنه عبر تلك المرحلة. أعتقد أيضا أن التهديد بتعاسة الآخرين على مثال أن انتحارك سيدمر أهلك أو أصحابك قد يؤدي إلى نتيجة عكسية ويزيد من الألم وإحساس الإنسان بالفشل ورغبته في الخلاص، من العبث أن نحمل من يريد الفرار من الآلام ذنوبًا وآلامًا إضافية. أعلم تمامًا أنني لو يومًا علمت أنني على مشارف مرض مثل الزهايمر سأتذكر كلمات أخي الإيجابية عن قدرتي على العطاء ولن أفكر في أن انتحاري سيحزن الآخرين أم لا؛ لأن قناعتي عندئذ ستكون أن حياتي تجلب تعاسة للآخرين وحزن يوم ولا كل يوم.
يتحتم علينا مواجهة الموضوع بطريقة عقلانية تحترم تفكير ومشاعر من يفكر فى الانتحار، وأن نعاونهم على الوصول بتفكيرهم هم إلى استنتاج آخر عن قابليتهم للوصول إلى أمل في السعادة والعطاء، وأن الانتحار هو حل غير قابل للتعديل، حل نهائي لا يعطي فرصة أخري لحل أفضل ولا رجوع منه إذا تغيرت الظروف والأوقات. يتحتم علينا أيضًا قبول أن الموضوع معقد وشائك للغاية، وأن نتدخل إذا كنا فعلًا قادرون على احترام الشباب البائس أمامنا من دون افتراض صحة موقفنا وأفكارنا وأن نتذكر أن هنالك العديد من حالات الاكتئاب المزمنة والصدمات النفسية والعصبية التي تتطلب تدخلاً من متخصصي الصحة النفسية. دعنا أيضًا نتذكر دورنا الحقيقي في الوقوف مع أو ضد الثورة الاجتماعية التي تعيشها مصر، ربما نكون نحن بمواقفنا طرفًا مباشرًا في الظاهرة التي نراها أمام أعيننا.
first appeared in Mada Masr